مشاركة:

المقالات


image not found

وداعاً أيها الأستاذ الحبيب الودود!

محمد عناية الله أسد سبحاني

فوجئنا قبل أيام بنبأ وفاة سماحة الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم رحمه الله، وكان نبأً محزنا!

وكم من الأنباء المحزنة فوجئنا بها في هذا العام! ع

يا أيها العـــــــــــام الذي قد رابني ... أنت الفداء لذكر عام أولا!

أنت الفداء لذكر عام لم يكن ... نحسا ولا بين الأحبّة زيلا!

 كان الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم من أساتذتي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، أيام كنت طالبا فيها في مرحلة الدراسات العليا في قسم التفسير، وكان الأستاذ الدكتور عطوفا ودودا، وكان محبّبا بين تلاميذه، وكنت أحبّه ويحبّني، وأكتب هذه السطور، وجفن العين ملآن مترع! ع

نعى الركب أوفى حين آبت ركابهم ... لعمري لقد جاءوا بشرّ فأوجعوا

وجامعة الإمام وقتئذ كانت تضم في رحابها كوكبة من العلماء الأعلام والأساتذة الصالحين البارعين، الذين كانوا يتميزون بحسن الخلق، وعمق الفهم، وسداد الرأي، وسعة الأفق، ورحابة الصدر، وغزارة العلم. وما كانوا يتعاملون مع تلاميذهم الوافدين من أقطار العالم تعاملا رسميا جافّا، كما هو العادة في الكليات والجامعات العصرية.

 ما كانوا يفعلون ذلك، لأنهم كانوا أصحاب رسالة سامية، وأهداف عالية. وكانوا حريصين على خدمة الإسلام والمسلمين من كل ناحية، وكانوا يبذلون جهودهم لينجبوا أجيالا شامخة قادرة على قيادة ركب العلم والحضارة في بلاد الإسلام.

 وكان معظمهم ينتمون إلى حركة الإخوان المسلمين، كبرى الحركات الإسلامية في العالم، فكانوا متميزين في خلقهم وسلوكهم، وكانوا متميزين في تفكيرهم وطموحاتهم، وكانوا متميزين في قدراتهم ومهاراتهم، وكان الفقيد الدكتور مصطفى مسلم رحمه الله منهم، وكان في مقدمتهم.

كان الدكتور مصطفى مسلم رحمه الله من جلّة أساتذتي، ولكنه كان يكرمني إكراما، وينبسط إليّ انبساطا كأني من أصحابه وزملائه، وكان يسألني كثيرا عن أحوال المسلمين في الهند، كما كان يسأل زملائي الآخرين عن أحوال المسلمين في بلادهم.

وكان يظهر من أسئلته ونبرات صوته أن بين جنبيه همّا يعتلج، ونارا من الحزن متأججة مضطرمة على سوء حال المسلمين في العالم!

إنه لم يكن رجلا عاديّا يعيش لنفسه، بل كان من رجال الدعوة، ومن رجال الفكرة، وكانت حياته حياة هادفة مثمرة ذات رسالة، وكان عنده اهتمام شديد بأحوال المسلمين في العالم، وكان يتوجع حين يسمع عن أحوال غربة الإسلام والمسلمين في بلادهم.

وكان الدكتور عنده تواضع شديد مثل السلف الصالحين، فعلى الرغم من أني كنت من تلاميذه، وكان يعطينا دروسا في التفسير وعلوم القرآن، ما كان يمنعه ذلك من أن يجلس معي ليناقشني مناقشة علمية أخوية في المسائل العلمية، أو المشكلات القرآنية، وكثيرا ما كنا نختلف في بداية الحديث، ولكنه بعد الاطلاع على أدلتي ومستند رأيي كان يستبشر بكلامي، ويتنازل عن رأيه من غير حرج.

ومن ذكرياتي الجميلة العطرة بخصوص شيخنا الحبيب الفاضل رحمه الله أني لما أكملت رسالة الدكتوراه في جامعة الإمام، تحت إشراف سماحة الأستاذ الدكتور أحمد حسن فرحات حفظه الله ورعاه، وكانت بعنوان: (نظام سور: الفاتحة والبقرة وآل عمران) تقدمت برجائي إلى الأستاذ الفاضل الكريم أن يتكرم بكتابة تقديم لهذه الرسالة المتواضعة، حتى يكون حلية لها، إذا تيسرت لي طباعتها ونشرها، فاستجاب شيخنا الفاضل لرغبتي سريعا من غير تردّد، و كتب لرسالتي تقديما رائعا، وكان مما كتب:

" إن من يعايش القرآن الكريم يستشف معاني ثرّة من خلف الألفاظ، وتشعّ أنوار الهداية من خلال الوشائج التي تربط الكلمات بعضها ببعض، ولقد كانت هذه الوشائج وهذه الروابط تلفت نظر كثير من المفسرين، فيطلقون أحكاما عامة كقولهم: إن آيات القرآن وسوره مترابطة بإحكام، وهي كالسلسلة الذهبية آخذة حلقاتها برقاب بعض، ولكنهم كانوا يضربون أمثلة قليلة لما يقولون، يسوقونها نماذج للاستدلال على هذه الفكرة.

وأضاف قائلا: ولقد أشبع الشيخ محمد عناية الله بهذه الفكرة، وعايشها وقرأ حولها الكثير، واضطلع على ما كتبه السابقون، فأراد أن يضيف عمقا جديدا لهذا الموضوع- موضوع المناسبات- بل وسّع الموضوع أكثر عند ما برز له أن هناك نظاما دقيقا ترتبط الآيات به.

وقال رحمه الله: والله شهيد على ما أقول، إني وجدت فوائد عظيمة في هذه الرسالة استفدت شخصيا منها. وهناك آراء سديدة، ونظرات ثاقبة للباحث لم أجدها عند غيره.

ولقد أوتي الباحث ملكة بيانية يغبطه عليها أبناء الضاد."

 ولقد طبعت الرسالة بعنوان: (البرهان في نظام القرآن)منذ سنين من دار عمار- الأردن مع هذا التقديم القيم الرائع، والحمد لله.

ولقد تقدمت بمثل هذا الرجاء إلى سماحة الشيخ الأستاذ أبي الحسن عليّ الحسني الندوي، وسماحة الأستاذ الدكتور محمد أديب الصالح رحمهما الله، فاستجابا لرغبتي، كما استجاب قبلهما شيخنا الدكتور مصطفى مسلم، وهكذا تحلّت رسالتي بثلاث تقديمات قيّمة رائعة، والحمد لله.

والجدير بالذكر أن شيخنا الدكتور مصطفى مسلم كان من أشهر علماء الكرد ودعاتهم، وكان من أبناء محافظة حلب، وكان من مواليد 1940م، وكان من بين الأبطال الأوائل الذين وقفوا ضد نظام الأسد بكل حماس وشموخ، مع انطلاقة الثورة السورية، في حين أن شقيقه الأكبر كان في الصفّ المقابل، وكان مواليا لنظام الأسد، لعنه الله!

ولقد صدق من قال:  

وليس الهدى والرشد من حيلة الفتى **  ولكن أحاظٍ قسّمت وجدود

نسأل الله سبحانه أن يتغمده برحمته، ويلبسه ثوب رضوانه، ويسكنه فسيح جناته، ويحشره مع الصديقين والشهداء، ويلهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان، إنه سميع قريب.