مشاركة:

المقالات


image not found

ذبائح أهل الكتاب ونساؤهم: الحلقة الثانية الأخيرة

محمد عناية الله أسد سبحاني

نشر في مجلة البعث الإسلامي في أكتوبر، 2009

والآن ننتقل إلى ما بعده من قوله تعالى:

(والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهوفى الآخرة من الخاسرين).

نكاح الكتابيات وماقيل فيه:

يقول الإمام ابن جرير في تفسيره:

اختلف أهل التأويل في المحصنات، فقال بعضهم: عني بذلك الحرائر خاصة، فاجرة كانت أو عفيفة، وأجاز قائلو هذه المقالة نكاح الحرة، مؤمنة كانت أو كتابية من اليهود والنصارى، من أي أجناس الناس كانت، بعد أن تكون كتابية، فاجرة كانت أو عفيفة، وحرموا إماء أهل الكتاب أن يتزوجن بكل حال...

وقال آخرون: إنما عني الله بقوله العفائف من الفريقين، إماءً كن أو حرائر، فأجاز قائلو هذه المقالة نكاح إماء أهل الكتاب الدائنات دينهم بهذه الآية، وحرموا البغايا من المؤمنات وأهل الكتاب. ثم اختلف أهل التأويل في حكم قوله عز ذكره: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) أعام أم خاص؟

فقال بعضهم: هو عام في العفائف منهن، لأن (المحصنات) العفائف، وللمسلم أن يتزوج كل حرة وأمة كتابية، حربية كانت أو ذمية. وقال آخرون: بل اللواتي عني بقوله جل ثناؤه: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) الحرائر منهن، والآية عامة في جميعهن، فنكاح جميع الحرائر اليهود والنصارى جائز، حربيات كن أو ذميات، من أي أجناس اليهود والنصارى كن.

وقال آخرون منهم: بل عني بذلك نكاح بني إسرائيل الكتابيات منهن خاصة دون سائر أجناس الأمم الذين دانوا باليهودية والنصرانية، وذلك قول الشافعي ومن قال بقوله.

وقال آخرون: بل ذلك معني به نساء أهل الكتاب الذين لهم من المسلمين ذمة وعهد، فأما أهل الحرب فإن نساءهم حرام على المسلمين.

     قال أبوجعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: عني بقوله: (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) حرائر المؤمنين وأهل الكتاب، لأن الله جل ثناؤه لم يأذن بنكاح الإماء للأحرار في الحال التي أباحهن لهم إلا أن يكن مؤمنات..

    فنكاح حرائر المسلمين وأهل الكتاب حلال للمؤمنين، كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة، ذمية كانت أو حربية، بعد أن تكون بموضع لا يخاف الناكح فيه على ولده أن يجبر على الكفر. (1)

    هذا ما نجده عند ابن جرير في تأويل هذه الآية، والآخرون يحومون حوله، ولا يعدونه، ويقتبسون منه ولا يختلفون معه.

   مفاهيم لايقرّها القرآن:

       وحينما ينظرالباحث في مثل تلك الأقاويل  ، ثم يرجع إلى القرآن، يأخذه العجب، وتستبد به الحيرة، ولا يدري ماذا يقول!

     كيف يرتاح الباحث إلى مثل تلك الأقاويل، وكيف يطمئن إلى صحة النكاح مع الكتابيات والقرآن ينادي ويحذر ويلات هذا النكاح حيث يقول:

    "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو اعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون." (البقرة: 221)

    قيل: إن هذه الآية تمنع نكاح المشركات، والكتابيات غير المشركات، فيجوز نكاح الكتابيات ولا يجوز نكاح المشركات!

    وهنا يأتي سؤال: إذا كانت الكتابيات غير مشركات، فهل هن مؤمنات؟ وإذالم يكنّ مشركات ولامؤمنات، فما هنّ؟ فهل بعد الإيمان إلا الكفر؟ وهل بعد التوحيد إلا الشرك؟ والقرآن لا يعتبر اليهود والنصارى إلا كفارا، ومشركين، ولا يَعِدهم إلا نيران الجحيم!

    فتوى موفّقة لعبدالله بن عمر:

    يروي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان لا يرى التزويج بالنصرانية، ويقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن)     (2)

      وماذانقول فى قوله تعالى: (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) ؟ إذا كانت الأمة المؤمنة خيرا من سيدة مشركة، فهل هي خير من سيدة يهودية؟ وهل هي خير من سيدةنصرانية؟ أم الأمر على العكس، وتكون السيدة اليهودية والسيدة النصرانية هي خيرا من أمة مؤمنة؟

     وإذا كانت الأمة المؤمنة خيرا من سيدة يهودية، وخيرا من سيدة نصرانية، كما هي خير من سيدة مشركة، فما وجه الفرق بين اليهودية، والنصرانية، وبين المشركة؟

تناط الأحكام بعللها:

    وجاء في آخر الآية: (أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه).

    لماذا منع المؤمنون من نكاح المشركات؟ لأن المشركات يدعون إلى النار. فماذا عن اليهوديات والنصرانيات، يا ترى؟ هل هن يدعون إلى الجنة أم يدعون  إلى النار؟

    وإذاكانت علة المنع قائمة في اليهوديات والنصرانيات كما هي قائمة في المشركات، بل هي في اليهوديات والنصرانيات أشد وأدهى مما هي في المشركات، فما وجه تخصيص هذا الحكم بالمشركات دون اليهوديات والنصرانيات؟ فالأصل أن الأحكام تناط بعللها، لا تعمم إلا بعموم عللها، ولا تخصص إلا بخصوص عللها.

    ثم الإشكال لاينحصر في هذه الآية فقط، فهناك آيات أخرى ترد هذا الرأي، وتبطل هذا القول، ولا تقر هذا التأويل، منها تلك الآيات التي تنهى المسلم عن موالاة أعداء الله.

    لا يجوز الولاء لغير المسلمين:

    فالقرآن يحذر المسلمين ولاء أعداء الله، يحذرهم ولاء الكفار، ويحذرهم ولاء اليهود والنصارى، فلم يفرق بين اليهود والنصارى، وبين الكفار في أمر الولاء. وإليك بعض تلك الآيات:

* يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوكم أولياء –  (الممتحنة:1)

* يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم -  (الممتحنة: 13)

* لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم ثقاة - ( آل عمران : 28)

* يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين - (المائدة : 51)

* يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين - (المائدة : 57)

* يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم   سلطانا مبينا – ( النساء: 144)

تلك الآيات تبين فداحة خطب الولاء لأعداء الله، وعلى رأسهم اليهود والنصارى.

* فالذي يوالي أعداء الله ليس من الله في شيء.

* والذي يوالي أعداء الله يعرض نفسه لغضب الله، ويجعل لله على نفسه سلطانا مبينا.

* والذي يوالي أعداء الله يكون منهم ويعدّ منهم، ويحرم نفسه من هدى الله، ويكتب عند الله من الظالمين.

* والذي يوالي أعداء الله يكون في واد، ويكون الإيمان في واد.

    النكاح من الولاء:

     وبعد ما عرفنا فداحة خطب الولاء لأعداء الله ينبغي أن نعرف أن النكاح من الولاء، بل من أعظم أنواع الولاء، وإذا نكح المسلم يهودية أو نصرانية فقد اتخذها وليا يلقي إليها بالمودة.

     ولعل هذا هو السر في أن الله سبحانه وتعالى بدأ سورة الممتحنة بالنهي عن موالاة أعداء الله فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) وبعد ما أعطي هذا الموضوع حقه من البيان والإيضاح بقدر ما كانت تقتضيه الظروف والملابسات، وجه إلى المسلمين خطابا واضحا صارما في شأن المرأة التي ألقى الله في قلبها الإسلام وزوجها مازال في ظلمات الكفر، وما زال يعادي الإسلام، فقال:

(يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حلّ لهم ولا هم يحلّون لهنّ وآتوهم ماأنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهنّ اذا آتيتموهنّ أجورهنّ ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم- الممتحنة: 10)

    فالمسلمات لسن حِلا للكفار، ولا يحل لهن أن ينكحن الكفار، كما لا يحل لهن أن يتخذنهم أولياء، والمسلمون لا يحل لهم أن يمسكوا بعصم الكوافر، كما لا يحل لهم أن يتخذوا الكوافر أولياء.

    فالنكاح من الولاء، بل من أعظم أنواع الولاء، ولا يحل النكاح بمن لا يحل له الولاء.

    والمسلم حينما حرم عليه أن يتخذ اليهود والنصارى أولياء فقد حرم عليه أن يخالط اليهوديات والنصرانيات ويمتّ إليهن بحبال النكاح.

    مودة أعداء الله:

     وهناك آية أخرى تسترعي الانتباه وهي قوله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون- المجادلة: 22)

     فالمسلم مأمور بنص القرآن بأن لا يحمل في قلبه المودة لأعداء الله، فالمودة لأعداء الله لا تجتمع مع الإيمان بالله واليوم الآخر، والذي يحمل المودة لأعداء الله يشقى بالحرمان من رضوان الله، والذي يحمل المودة لأعداء الله لا يمكنه الانضمام إلى حزب الله، وبالتالي لا يجد مكانه إلا في حزب الشيطان، وفيه الخسران كل الخسران!

     وهنا يأتي سؤال: هل يمكن المسلم أن ينكح يهودية أونصرانية، ويبخل عليها بالحب والمودة؟ وهل يمكنه أن ينكح يهودية أو نصرانية ولا يبذل لأبيها وأمها وإخوتها وعشيرتها الحب والمودة؟ هيهات، ثم هيهات!! فالنكاح مفتاح المودة، وبناؤه الحب والمودة، ولا يجمع النكاح الزوجين إلا على أساس الحب والمودة.

    فإذا كان حِجرا على المسلم أن يحمل المودة لأعداء الله، كيف يحل له أن يطمح إلى الكتابية، ويمسك بعصمتها ويفضي إليها؟

    وهناك آية أخرى تحذر المسلمين أن يتخذوا بطانة من دونهم، حيث قال تعالى:

 (يا أيها الذين آمنوالا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون- آل عمران: 118)

     وهل يمكن أن ينكح امرؤ يهودية أونصرانية، ويجمعهما سرير واحد وفراش واحد، ويتم بينهما ميثاق غليظ، ثم لايتخذها بطانة؟ لايمكن ذلك أبدا إلا إذا شاب الغراب، أوإذا ولج الجمل في سم الخياط.

روايات مكذوبة:

     والروايات التي وردت في شأن جلة الصحابة أنهم أمسكوا بعصم الكتابيات، مثل ما روي عن سيدنا عثمان بن عفان أنه تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية علي نسائه وروي عن طلحة بن عبد الله أنه تزوج يهودية من الشام، وروي عن حذيفة اليمان أنه أيضا تزوج يهودية ! (3)

    إن أمثال هذه الروايات عن آخرها روايات مكذوبة، وكلها من وضع الزنادقة الأعداء، وما حملهم على ذلك إلا حقدهم الشديد، وحرصهم العارم على أن يفتحوا لأنفسهم منافذ إلى بيوتات المسلمين حتى يقدروا على إفسادها وخرابها. وقد فعلوا ما أحبوا، وتحقق لهم ما أرادوا، والعياذ الله.

    هم أرسلوا من فتياتهم الفاتنات الماكرات إلى بلاد المسلمين شماطيط وأرسالا، والمسلمون لم ينتبهوا لهذا الخطر الداهم، الذي زحف إليهم ليمزق كيانهم، ويسلبهم عزهم وكرامتهم.

    هم رحبوا بتلك الفتيات العاريات الكاسيات زاعمين أنهن لهم حلال، وكانوا مخطئين فيما زعموا، واستقبلوهن وكأنهن من حور الجنان! وهم لا يدركون أنهن مطايا الذل والهوان، ومفاتيح الخزي والدمار!

    وهكذا تمكن الأعداء من رقابنا، وضربونا في عقر دارنا، بعد ما انكسروا وخضعوا أمام سيوفنا ورماحنا، وما ضربونا إلا بسلاح فتياتهم ونسائهم، ومع كل ذلك قال علماؤنا، وما زالوا يقولون: (حرائر أهل الكتاب حلال للمؤمنين، حربيات كن أو ذميات، كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة)! فإلى الله المفزع وإليه المشتكي!

   تأويل الآيةكما يمليه علينا السياق:

     وحان لنا أن نرجع إلى تأويل الآية كما يمليه علينا السياق، ولكن قبل أن ندلي بدلونا في تأويل الآية، نريد أن ننبه إلى أمر لا ينتبه له كثير من الناس وهو أن الله سبحانه وتعالى أذن لنا في نكاح المحصنات، فما معنى المحصنات؟

    لقد استعمل القرآن هذه الكلمة في آيات متعددة، وها هي تلك الآيات:

* والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون - (سورة النور: 4)

* إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم. (سورة النور: 23)

* ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحو هن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وان تصبروا خير لكم والله غفور رحيم- (سورة النساء: 25)

* والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما  استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما – (سورة النساء: 24)

* اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتو الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين. – ( سورة المائدة: 5)

     الأصل في معنى المحصنات:

     وإذا تأملنا في تلك الآيات وجدنا أن لفظ "المحصنات" لا يستعمل في القرآن إلا للنساء المؤمنات. فأحيانا يأتي القرآن بلفظ المحصنات فقط، وأحيانا يضم إليه لفظ المؤمنات، شرحا وتفسيرا لمعنى المحصنات، مثل ما نرى في سورة النور، حيث قيل أولا:

(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء... الآية)

ثم قيل مرة أخرى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات.. الآية)

فهذه الآية الأخيرة تفسر الآية الأولى، وتبين أن المراد بالمحصنات هن المؤمنات، وحد القذف لا يقام إلا على من قذف المؤمنة دون الكافرة.

    وآية النساء (رقم: 25) ورد فيها لفظ المحصنات مرتين؛ مرة بوصف المؤمنات، ومرة أخرى بدون هذا الوصف، لأن الأولى أغنت عن إعادته في الأخرى.

    وأما آية النساء (رقم: 24) فلفظ المحصنات فيها، وإن كان بمعنى (ذوات الأزواج) ولكنه في نفس الوقت يتضمن معنى المؤمنات، فإن الحديث هنا يدور حول ما حرم على المؤمنين من النساء وحول ما أحل لهم، والمؤمنون لا يحل لهم إلا نكاح المؤمنات.

   والآن نأتي إلى آية سورة المائدة التي هي موضوع حديثنا، فنقول: لفظ "المحصنات" جاء في هذه الآية مرتين؛ وهو يتضمن معنى الإيمان في كلتا المرتين، ويكون معنى الآية: المؤمنات من أهل الكتاب والمؤمنات من غير أهل الكتاب.

    لا يكون الإحصان إلا بالإسلام:

   ولنعلم أن الإحصان لايكون إلا بالإسلام. فالإسلام هو أكبر حصن للمرأة. إذا دخلت المرأة في هذا الحصن صانت عرضها وكرامتها، وإن كانت خارج هذا الحصن كانت دائما مهددة بالضياع، وكانت في خطر من عرضها وكرامتها.

   نعم، الحرية أيضا حصن، والزواج أيضا حصن، ولكن هذه الحصون حصون واهية لا تكفي لطهارة المرأة وحصانتها، فقد تفجر المرأة وهي حرة، وقد تفجر وهي ذات زوج، ولكن المرأة المسلمة التي ذاقت حلاوة الإسلام، وخالطت قلبها بشاشة الإيمان لا يمكن أن تكون فريسة للشيطان. هي تجود بنفسها ولا تجود بعرضها. هي تختار لنفسها المنون، ولا ترضى أبدا بأن تقع في الفجور.

   فربنا سبحانه وتعالى لا يسمى المرأة محصنة إلا إذا حصنت نفسها بالإيمان.

   والجدير بالذكر أن الله سبحانه وتعالى بدأ هذه الآية بقوله (اليوم أحل لكم الطيبات) وبعد ذلك جاء بيان تلك الطيبات، فكون الشيء طيبا وصف لازم لا يفارق أي شيء أحل للمؤمنين، سواء في هذه الآية أو في غيرها.

   ومن صفات نبينا عليه الصلاة والسلام التي ذكرت فى التوراة والإنجيل والقرآن، (يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)، فكل ما أحل في شريعة الإسلام هو من الطيبات، وكل ما حرم فيها هومن الخبائث.

    تلك قاعدة ثابتة من قواعد هذه الشريعة الغراء. لا ينبغي أن نتناساها بحال من الأحوال.

    فهل يسعنا أن نقول: إن المرأة اليهودية أو المرأة المسيحية من الطيبات؟ اللهم، لا.

وهل يسعنا أن نقول: ذبائح أهل الكتاب من الطيبات؟ اللهم، لا، فهذه كلها خبائث، نسأل الله العافية من كل هذه الخبائث.

     أسلوب من أساليب القرآن:

      قد يقال: إن كان المراد بـ(المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) هي المرأة المؤمنة، فلماذا أفردت بالذكر؟ فإن المرأة المؤمنة هي المرأة المؤمنة، سواء كانت من أهل الكتاب أم كانت من غير أهل الكتاب. وما فائدة ذكرها ذكرا مستقلا منفصلا عن ذكر أختها المؤمنة من غير أهل الكتاب؟

     نقول: هذا من ذكر الخاص بعد العام على أسلوب قوله تعالى (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر- سورة القدر:4) فالروح، وهو سيدنا جبريل، من الملائكة، ولكنه أفرد بالذكر بعد ذكر الملائكة، رفعا لشأنه وتعظيما لمكانته. وهكذا نرى ربنا سبحانه وتعالى يحسب للمؤمنين من أهل الكتاب حسابا خاصا، ويخصهم بالذكر أحياناً، تنويها بفضلهم ورفعا لشأنهم،  فيفردهم بالذكر بعد ذكر المؤمنين، وإن كانوا مندرجين في عموم المؤمنين.

     نأخذ على سبيل المثال خواتيم سورة آل عمران، فقد أشاد الله تعالى فيها بذكر المؤمنين الأبرار، وذكر دعواتهم الضارعة الخاشعة، وأتبعها ذكر الاستجابة السخية الندية الودودة الكريمة لتلك الدعوات، بحيث ينشط لها القلب وتهتز لها المشاعر وتهتزّ. ثم عاد مرة أخرى وأفرد المؤمنين من أهل الكتاب بالذكر وخصهم بالمدح والتكريم فقال:

 (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب).

    علما بأن الآيات التي سبقت هذه الآية كانت تثني على جماعة المؤمنين الصادقين جميعا بما فيهم أهل الكتاب وغيرهم. ولكن أهل الكتاب ذكروا مرة أخرى ذكرا مستقلا بعد ما ذكروا مع عموم المؤمنين، تنويها بشأنهم، وإشادة بتضحياتهم، فقد أوذوا في سبيل الله أكثر من غيرهم، ولاقوا من العناء والعذاب ما لا تصمد له إلا رجال كالجبال ونساء كالراسيات.

    وذلك لأن الأعداء من أهل الكتاب كانوا أشد الناس عداوة للاسلام وأهل الإسلام، وكانوا أشد حنقا عليهم من غيرهم من المشركين الوثنيين، وبالتالي كان بطشهم ونكايتهم أشد وأنكى لمن يشرح الله صدره للإسلام منهم، فكان المسلمون منهم يذوقون من عدوانهم وشراستهم مالا يذوقه غيرهم، فكان جزاؤهم بقدر بلائهم، وكان التنويه بفضلهم بقدر ما أوذوا في سبيل ربهم.

هذا، وصلى الله على سيدنا محمدوعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

                    ***                           ***                    ***

المراجع:

  1. تفسير الطبري، ج:4 ص:444-448 بحذف واختصار
  2. تفسير ابن كثير، ج:2،ص:905
  3. البحر المحيط لأبي حيان، ج:4،ص:184