مشاركة:

المقالات


image not found

ذبائح أهل الكتاب ونساؤهم: الحلقة الأولى

محمد عناية الله أسد سبحاني

نشر في مجلة البعث الإسلامي في أغسطس وسبتمبر، 2009.

قال الله تعالى فى كتابه العزيز:

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)-   (المائدة: 5)

    ذبائح أهل الكتاب وماقيل فيها:

   يقول ابن جرير وهو يفسر قوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)

"وذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم الذين أوتوا التوراة والإنجيل وأنزل عليهم، فدانو بهما أو بأحدهما (حل لكم) يقول حلال لكم أكله دون ذبائح سائر أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من مشركى العرب وعبدة الأوثان والأصنام، فإن من لم يكن منهم ممن أقر بتوحيده عز ذكره ودان دين أهل الكتاب فحرام عليكم ذبائحهم" (1)

ثم من هم المراد بالذين أوتوا الكتاب؟  يقول ابن جرير:

"فقال بعضهم: عني بذاك ذبيحة كل كتابى ممن أنزل عليه التوراة والإنجيل، أو ممن دخل فى ملتهم فدان دينهم وحرم ما حرموا وحلل ماحللوا، منهم ومن غيرهم من سائر اجناس الأمم" (2)

"وقال آخرون: إنما عني بالذين أوتوا الكتاب فى هذه الآية الذين أنزل عليهم التوراة والإنجيل من بنى إسرائيل وأبنائهم، فأما من كان دخيلا فيهم من سائر الأمم ممن دان بدينهم وهم من غير بنى إسرائيل فلم يعن بهذه الآية، وليس هو ممن يحل أكل ذبائحه، لأنه ليس ممن أوتى الكتاب من قبل المسلمين، وهذا قول كان محمد بن إدريس الشافعى يقوله ويتأول فى ذلك قول من كره ذبائح نصارى العرب من الصحابة والتابعين" (3)

   وبعد ذكر روايات وردت عن علي وابن عباس يقول ابن جرير:

"قال أبوجعفر: وهذه الأخبار عن علي رضوان الله عليه إنما تدل على أنه كان ينهى عن ذبائح نصارى بنى تغلب، من أجل أنهم ليسوا علي النصرانية لتركهم تحليل ما تحلل النصارى وتحريم ما تحرم، غير الخمر و من كان منتحلا ملة هو غير متمسك منها بشيء فهو إلى البراءة منها أقرب منه إلى اللحاق بها وبأهلها، فلذلك نهى علي عن أكل ذبائح نصارى بنى تغلب، لا من أجل أنهم ليسوا من بنى إسرائيل.

فإذا كان ذلك كذلك، وكان إجماعا من الحجة أن لا بأس بذبيحة كل نصرانى ويهودي دان دين النصراني أو اليهودى فأحل ما أحلوا وحرم ما حرموا، من بني أسرائيل كان أو من غيرهم، فتبين خطأ ما قال الشافعى فى ذلك، وتأويله الذي تأوله فى قوله: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) أنه ذبائح الذين أوتوا الكتاب، التوراة والإنجيل من بنى إسرائيل، وصواب ما خالف تأويله ذلك، وقول من قال إن كل يهودي ونصرانى فحلال ذبيحته، من أى أجناس بني آدم كان.

وأما الطعام الذي قال الله: (وطعام الذين أوتوا الكتاب) فإنه الذبائح .....

وأما قوله (طعامكم حل لهم) فإنه يعنى: ذبائحكم أيها المؤمنون حل لأهل الكتاب. (4)

ملخّص ماقيل:

نستخلص من هذه النصوص ما يلى:

1- المراد بالطعام فى الآية هي الذبائح.

2 - ذبائح اهل الكتاب من اليهود والنصارى حلال سائغ لأهل الإسلام .

3 - ذبائح غيرهم من المشركين الذين لا كتاب لهم لا تحل للمسلمين.

4 - كل من دخل فى اليهودية أوالنصرانية يكون فى حكم أهل الكتاب من أي أجناس بنى آدم   كان، وتكون ذبائحه حِلاًّ بلِاًّ للمسلمين.

5 – ليس ذلك رأى طائفة من الناس، وإنما هو إجماع من الحجة.

سؤال وإشكال:

وهنا يثور سؤال، ويأتى إشكال:

لقد نهينا فى سورة الأنعام، وهي سورة مكية، عن الأكل ممالم يذكر اسم الله عليه، حيث قال تعالى:  (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق-  الأنعام: 121)

وجاء نفس الكلام قبيل الآية التى نتحدث عنها الآن حيث قال تعالى:

(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به – المائدة: 3)

فما أهلّ لغير الله به وذكر عليه اسم غير الله فهو حرام.

فكيف يجمع بين الأمرين؟ كيف يكون التوفيق بين النهى عن الأكل "مما لم يذكر اسم الله عليه" والأمر بأكل "ما أهل به لغير الله" وبين إحلال ذبائح أهل الكتاب وهم قوم يفجرون أمام الله، ويقولون بكل وقاحة: "إن الله هو المسيح بن مريم" ويقولون: "عزير ابن الله"!

رأى أبي حيان:

يقول أبوحيان صاحب البحر المحيط:

"والظاهر حل طعامهم، سواء سموا عليه اسم الله أم اسم غيره" (5)

هل الأمر هكذا؟ وإذا حل طعام أهل الكتاب سواء سموا عليه اسم الله أم اسم غيره، فلماذا لا يحل طعام غيرهم من عبدة الأوثان، وعبدة الشمس والكواكب والنيران؟ وما الفرق بين هؤلاء و هؤلاء؟

رأى مكحول:

  يروى عن مكحول رحمه الله أنه قال - ولعله أراد أن يدفع هذا الإشكال-: "أنزل الله (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ثم نسخها الرب عز وجل، ورحم المسلمين فقال:

   (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)

  فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب"  (6)

   أيّ رحمة هذه يا ترى؟ وماذا يخسر المسلمون إن لم يأكلوا من ذبائح أهل الكتاب، أعداء الله وأعداء الرسول؟ ولماذا ينسخ الله حكما هو من أساسيات عقيدة التوحيد؟ لماذا ينسخه بدون لزوم ؟

تعقّب ابن كثير:

   ولعل هذا هو السبب فى أن ابن كثير لا يرتاح إلى كلام مكحول حيث يقول: "وفى هذا الذي قاله مكحول - رحمه الله – نظر؛ فإنه لا يلزم من إباحة طعام أهل الكتاب إباحة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه. لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم، وهم متعبدون بذلك، ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم؛ لأنهم لم يذكروا اسم الله على ذبائحهم"  (7)

من خطءٍالى خطءٍ!

      نقول: الذي قاله مكحول فيه نظر، والذى قاله ابن كثير أيضا فيه نظر، فإنه لم يعالج الخطأ إلا بخطء آخر، فاليهود والنصارى هم أعداء الله بنص القرآن، حيث قال تعالى، والقول موجّه إلى اليهود وأتباع اليهود:

(من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين- البقرة: 98)

وكيف يتصور من قوم يعادون الله ويفجرون أمام الله ويسخرون منه قائلين: (إن الله فقير ونحن أغنياء) كيف يتصور من هؤلاء الأشقياء أن يذكروا اسم الله  على ذبائحهم وقرابينهم وهم يتعبدون بذلك؟ فهذا أمر لا يتأتى إلا إذا شاب الغراب !!

   فما المراد إذاً من قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)؟

   قبل أن نحاول التوصل الى تأويل هذه الآية لابد أن نتبين أمرين:

1- ماأمرناإلابأكل الطيبات

   إن الله تعالى لا يحب لعباده أن يأكلوا الخبائث، هو يحب لهم دائما أن يأكلوا الطيبات – فقال  وهو ينادى رسله:

(يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إنى بما تعملون عليم _ المؤمنون:51)

    وينادي المؤمنين فيقول: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ـ البقرة: 172)

    ويقول: (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوالله الذي أنتم به مؤمنون - المائدة: 88)

      وربنا سبحانه وتعالى لا يخص الرسل بهذا التوجيه، ولا يخص المؤمنين بهذا التنبيه، بل يعمم القول وينادى الناس أجمعين :

     (يا أيها الناس كلوا مما فى الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين – البقرة: 168)

     ولقد ذكر الله تعالى من صفات نبينا عليه السلام ما يشبه ذلك، حيث قال:

     (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث – الاعراف: 157)

   تلك الآيات إن دلت على شىء، فإنما تدل على أن شريعة الله ليس فيها مكان لشىء خبيث، فكل ما جاء به القرآن، أو أمر به ربنا الرحمن، لا بد أن يكون شيئا طيبا.

  والآية التي نحن بصدد الحديث عنها هي نفسها تعلن إعلانا صريحا: (اليوم أحل لكم الطيبات)

  فالشىء الذي أحل للمسلمين لابد أن يكون طيبا، وإن كان هناك شيء لا يحمل معنى الطيب فلا شك أنه حرام، ولا يجوز للمسلمين أن يقربوه.

ذبائح أهل الكتاب فسق وحرام:

وهنا يأتى سؤال:

    الأنعام التي أهلّ بها لغير الله، أي: الأنعام التى أهلّ بها للمسيح، أو الأنعام التى أهلّ بها لعزير، أو الأنعام التى أهلّ بها لمريم أم عيسى، أو الأنعام التى أهلّ بها لغير هؤلاء من دون الله، ما حكم تلك الأنعام؟

   القرآن يفتى فيها بلفظ صريح، لا لبس فيه ولا غموض:

  (قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به – الأنعام: 145)

(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق – الأنعام:121)

فالشيء الذي أهلّ به لغيرالله، أو لم يذكر عليه اسم الله، هو فسق، والفسق شيء خبيث، ولا يجتمع الفسق والطيب إلا إذا اجتمع الظل والحرور، أو اجتمع الظلام والنور!

فالقول القائل: (أحل الله لنا طعام اهل الكتاب، ولم يستثن منه شيئا) (8) قول غير سديد، قول لايستند إلى دليل.

2- الطعام غيرالذبائح:

      هناك أمر آخر يجدر بالانتباه، وهو أن لفظ "الطعام" في اللغة لا يأتى بمعنى الذبائح كما قيل، ولقد جاء هذا اللفظ فى القرآن أكثر من مرة، ولكن لم يأت قط بمعنى الذبائح.

      قال تعالى: (كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها ان كنتم صادقين – آل عمران: 93)

    تقول الروايات: إن إسرائيل، وهو يعقوب عليه السلام، مرض مرضا شديدا، وكان يعتريه عرق النسا بالليل، وكان يقلقه ويزعجه عن النوم فنذر على نفسه لئن عافاه الله ليمتنعن – تطوعا- عن لحوم الإبل وألبانها، وكانت أحب شيء إلى نفسه.

  "وقيل أشارت عليه الأطباء باجتنابه ففعل ذلك بإذن من الله " (9)

   "فكل الطعام" فى الآية يكون بمعنى كل الأنعام، وليس بمعنى كل الذبائح، أى: كل الأنعام كانت حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه.

   وهناك آية أخرى يُستأنس بها فى معنى لفظ الطعام حيث قال تعالى:

   (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغيرالله به)

  يقول ابن كثيرفى تأويل هذه الآية:

قيل: "معناه: لا أجد شيئا مما حرمتم حراما سوى هذه. "وقيل معناه: "لا أجد من الحيوانات شيئا حراما سوى هذه". (10)

وقال تعالى: (وأحل لكم صيد البحر وطعامه - المائدة: 96)

قال مجاهد فى تأويله: "يصطاد المحرم والمحل من البحر ويأكل من صيده. وعن عكرمة قال قال أبوبكر: طعام البحر كل ما فيه. وقال جابر بن عبد الله: ما حسر عنه فكل، قال كل ما فيه يعنى: جميع ما صيد" (11)

وقال الآلوسى: (طعامه) أى: مايطعم من صيده. والمعنى: أحل لكم التعرض لجميع ما يصاد فى المياه والانتفاع به، وأكل ما يؤكل منه وهو السمك عندنا.. (12)

تأويل الآيةفى ضوءنظائرها:

    والآن نرجع إلى الآية التي نحن بصدد الحديث عنها، فنقول: ليس هناك شئ يدعونا إلى القول بأن الطعام في قوله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) في معنى الذبائح كما قيل، فليست هناك قرينة لهذا المعنى، لا في اللفظ ولا في السياق، والجوّ مفتوح للنظر والتأويل، ولا يعوزنا أن نبحث له معنى آخر رائعا، سليما من تلك الإشكالات الفادحة التي سبق أن أشرنا إليها.

  فما ذلك المعنى السليم يا ترى؟

       إذا أردنا التوصل إلى المعنى الصحيح السليم لهذا  اللفظ، ثم لهذه الآية، فلا بد أن نتذكر ذلك الوضع السيء الرهيب الذي كان يعاني منه اليهود بسبب بغيهم وطغيانهم، حيث قال تعالى:          .   (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون – الأنعام: 146).

    وقال تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما - سورةالنساء: 160-161)

    فاليهود حينما رتعوا في مراتع الظلم والبغي، وتمادوا في الشر والغيّ، حرم الله عليهم كثيرا من الطيبات، منها تلك الطيبات التي جاء ذكرها في سورة الأنعام. ولبثوا في تلك العقوبات أحقابا حتى جاءهم سيدنا عيسى عليه السلام، وخفف عنهم شيئا من تلك العقوبات.

    ولقد ذكر ذلك عيسى عليه السلام من أهداف بعثته إلى بني إسرائيل حيث قال:

  (ومصدقا لما بين يديّ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون – آل عمران: 50).

   وبشّرهم بخاتم الأنبياء، وأنه إذا جاءهم رفع عنهم تلك العقوبات، وأحل لهم الطيبات، ووضع عنهم الإصروالأغلال التي فرضت عليهم.هذامذكور في كتبهم في أكثر من موضع،ومذكور بالتفصيل.

   ولقد سجل القرآن هذه البشارات، واشترط على اليهود أن يتبعوا هذا الرسول وينصروه إن كانوا يريدون أن يدخلوا في رحمة الله من جديد، وكانوا يريدون أن يخرجوا من ذلك الشقاء البئيس، الذي جلبوه على أنفسهم بسبب ظلمهم وبغيهم، حيث قال تعالى:

   (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (الأعراف: 155 – 157)

     فسورة المائدة، وفيها الآية التي نتحدث عنها، سورة إكمال الدين وإتمام النعمة،حيث قال تعالى فيها:

    (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا- المائدة: 3).

    وفي هذه السورة أحلت الطيبات وفصلت المحرمات، وكان لأهل الكتاب من تلك النعمة نصيب، وكان لهم منها حظ وافر، فقد أحلت لهم الطيبات ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.

وكان ذلك تحقيقا للوعد الذي ذكر في التوراة والإنجيل، وذكر في القرآن في سورة الأعراف.

وعدمرهون بالإيمان:

    والجدير بالانتباه أن هذا الوعد كان مرهونا بالإيمان بخاتم الأنبياء، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه هم الذين نهلوا وعلّوا، وارتووا من هذا الكوثر، وهم الذين ملؤوا أكفّهم من هذا الخير الأكبر، وهم الذين تأزروا وارتدوا بهذه الكرامة السابغة.

    وأما الذين أبوا وطغوا وتمادوا في غيهم وصدودهم عن سبيل الله فليس لهم من هذا الوعد نصيب، وليس لهم منه حبل ولا بعير. فالمراد بالذين أوتوا الكتاب في قوله تعالى:

(وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم)

هم المؤمنون من أهل الكتاب، الذين آمنوا بهذا الرسول.

   فيكون معنى الآية: اليوم أحل لكم الطيبات كلها، فما كان حلالا لأهل الكتاب هو حلال لكم، وما هو حلال لكم صار حلالا لهم، فما بقي عليكم ولا عليهم في الدين من حرج، وسعتكم رحمة ربكم وشملتكم، تحقيقا للوعد الذى وعد به نبيه موسى إذ قال: (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.)

        كلمةللإمام الفراهي:

    ويبدو أن الإمام الفراهي، صاحب "تفسير نظام القرآن"، كان يرى نفس الرأي في تأويل الآية، حيث كتب في تعليقاته كلمة سريعة عابرة فقال: (وطعام الذين أوتوا الكتاب) الواو للبيان، والطعام ما أحلّ لهم، (وطعامكم حل لهم) لبيان النسخ لما حرّم عليهم لبغيهم لكي لا يزعموا أن حرمة التوراة تبقي عليهم بعد الإسلام. (13)

  والشيخ العلامة أمين أحسن الإصلاحي صاحب تفسير "تدبر قرآن" أيضا يرى نفس الرأي، ولا يوافق الذين يفسرون "الطعام" بالذبائح، ويبيحون ذبائح اليهود والنصارى على الإطلاق، سواء ذكر اسم الله عليها أم لم يذكر. (14)

سؤال بالغ الأهمية:

قد يقال: كان من دأب المؤمنين من أول أمرهم أنهم كلما آمن شخص من أهل الكتاب أصبح واحدا منهم، وكان له ما لهم، وكان عليه ما عليهم، وكان يحل له ما يحل للمؤمنين، وكان يحرم عليه ما يحرم على المؤمنين، كان ذلك شأنهم، ولم تنزل بعدُ هذه الآية، فماذا جنى المؤمنون من أهل الكتاب من نزول هذه الآية؟ وماذا استفادوا منها؟ وهل جنوا منها جديدا لم يكن في أيديهم؟

     فالحكمة في ذلك، فيما نرى، أن الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن بعض العقوبات التي فرضت على اليهود، وذكر أنه حرم عليهم طيبات أحلت لهم، ووعد في التوراة والإنجيل والقرآن أنهم إن آمنوا بالنبيّ الأميّ فهو يعفو عنهم ويرحمهم، ويرفع عنهم تلك العقوبات، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.

     فلما استجاب فريق من أهل الكتاب للرسول الموعود، وآمنوا بهذا النبي الأمي كان من مقتضى الحكمة أن يذكر إنجاز ذلك الوعد ويسجل بلفظ صريح واضح في القرآن، فقيل: (اليوم أحلت لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم).

     فالآن صار المؤمنون من أهل الكتاب والمؤمنون من بني إسماعيل وكأنهم جسد واحد، حلالهم حلالهم، وحرامهم حرامهم.

                       ***             ***                ***

المراجع:

  1. تفسير ابن جرير، ج: 4، ص: 440
  2. المصدر السابق، ج: 4، ص: 441
  3. المصدر السابق
  4. المصدر السابق، ج: 4، ص: 442-443
  5. البحر المحيط لأبي حيان، ج: 4، ص: 183
  6. تفسير ابن كثير، ج:2، ص: 904
  7. تفسير ابن كثير، ج: 2، ص:904
  8. تفسير الطبري، ج:4،ص:443
  9. الكشاف للزمحشري، ج:1،ص:445
  10. تفسير ابن كثير، ج  :2، ص:1123
  11. تفسير الطبري، ج:5،ص:65
  12. روح المعاني الإمام الألوسي، ج:7، ص:30
  13. تعليقات في تفسيرالقرآن الكريم للفراهي:1/147

انظر "تدبر قرآن"، أمين أحسن الإصلاحي، ج:2  ص:463