المقالات
لا يغني غناءهم إلا من بات بِيْتَتَهم!
محمد عناية الله أسد سبحاني
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:
يَاأَيُّهَاالْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّاقَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْزِدْعَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
قال ابن العربي في تأويل تلك الآيات:
"هذا نص في أن قيام الليل كان فرضا في صدر الإسلام، بأول سورة المزمل، ثم نسخه الله بآخرها، فصار منسوخا عن الأمة بنص القرآن، بعد أن كان مفروضا عليهم بمعنى القرآن وصريح السنة.
وهل بقي على رسول الله عليه السلام، لم ينسخ عنه؟ في ذلك خلاف بين العلماء، والصحيح بقاؤه عليه."[1]
وأخرج أبو داود في ناسخه من وجه آخر عنه قال: أول آية نسخت من القرآن القبلة، ثم الصيام الأول.
قال مكي: وعلى هذا فلم يقع في المكي ناسخ.
قال وقد ذكر أنه وقع في آيات، منها قوله تعالى في سورة غافر: "والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا" فإنه ناسخ لقوله: "ويستغفرون لمن في الأرض".
قال السيوطي: قلت أحسن من هذه نسخ قيام الليل في أول سورة المزمل بآخرها أو بإيجاب الصلوات الخمس، وذلك بمكة اتفاقا.[2]
وقال الدهلوي: دعوى النسخ بالصلوات الخمس غير متجهة، بل الحق أن أول السورة في تأكيد الندب إلى قيام الليل، وآخرها نسخ التأكيد إلى مجرد الندب.[3]
ماذا ربحنا من القول بالنسخ؟
ولقائل أن يقول هنا: ماذا ربح القائلون بالنسخ في أوائل سورة المزمل؟ هل ربحوا شيئا غير الحيرة والكلال؟ والقول المنسوب إلى سيدنا علي بن أبي طالب فيما يتعلق بالنسخ في القرآن: "هلكت وأهلكت" يصدق على أيّ الفريقين؟ يصدق على القائلين بالنسخ، أم على غيرهم من نفاته؟
فالواقع أننا خسرنا خسرانا مبينا، وجلبنا الخسار على الجميع، حينما قلنا بنسخ قيام الليل، أو قلنا بنسخ فرضيّته، أو قلنا بتخفيفه، أو قلنا بنسخ تأكيده، فالقرآن لا يقول هذا، ولا ذاك.
وإنما يقول:
"وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ".
فهو تقدير الليل والنهار، وتكليف النفس بما يتيسر لها، ومراعاة ظروف المؤمنين، والنظر إلى ما قد يعتريهم من مرض، أو سفر، أو ما يقومون به من قتال وجهاد في سبيل الله.
سبب نزول الآية:
والظاهر أن هذه الآية،وهي خاتمة هذه السورة، ما نزلت إلا بعد الهجرة إلى المدينة، حينما دخل المسلمون في مرحلة جديدة من حياتهم، حيث تمكنوا من الضرب في أرجاء الأرض لابتغاء فضل الله، بعدما كانوا غير قادرين على الضرب فيها، حينما كانوا ببطن مكة.
وحان لهم أن يخوضوا القتال والجهاد في سبيل الله، وبالتالي ستمسّهم قروح وجروح، وسيكون فيهم مرضى.
ومما يقوي ذلك رواية رويت عن سيدنا عبد الله بن عباس، وهي تفيد أن خاتمة هذه السورة ما نزلت إلا بعد الهجرة إلى المدينة.
وأما ما ورد عن السيدة عائشة، من أن هذه الخاتمة نزلت بعد اثنى عشر شهرا من نزول أوائل السورة، فهو ليس بشيء؛ فإن تلك الروايات جاءت عن طريق أناس تنقصهم الضبط والعدالة، فهي جاءت عن طريق سعيد عن قتادة، وكلاهما ليسا موضع ثقة. ولا يقبل منهما شيء إلا بحذر!
وإذا نظرنا إلى الآية نفسها، فهي تصرفنا بمضمونها عن تلك الروايات، فإنها تذكر القتال في سبيل الله، وتذكر الأسفار لابتغاء فضل الله، ولم يكن ذلك التطور في حياة المؤمنين إلا بعد الهجرة إلى المدينة.
لا فرق بين الأمس واليوم:
وما جاء حكم التيسير في الآية الأخيرة بسبب انتفاخ أقدام رسول الله وأصحابه، وإنما جاء بحكم الظروف المتطورة المستجدّة، التي كان يقبل إليها المسلمون، من مرض وسفر وقتال في سبيل الله.
فإذا كان المسلم في سلامة وعافية من مرض، وليس في حالات السفر، وليس على جبهة من جبهات القتال، أو على ثغر من ثغور المسلمين، فما الذي يعفيه من قيام الليل؟ فليقم ثلثه، أو نصفه، أو أدنى من ثلثي الليل.
وكم نتعجب من قول من يقول: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الصلوات الخمس!
والذي نعرفه من سنة رسول الله أنه كان مواظبا على قيام الليل، كما كان مواظبا على الصلوات الخمس، وكانت تلك سنته الدائبة إلى أن لحق بالرفيق الأعلى.
وهذا الذي حمل ابن العربي صاحب (الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم) على أن يقول:
"وهل بقي على رسول الله عليه السلام، لم ينسخ عنه؟ في ذلك خلاف بين العلماء، والصحيح بقاؤه عليه بأدلة بيناها في المتقدم من كلامنا، وفي الأحكام."
ثم لم تكن تلك سنة رسول الله فقط، بل كانت سنة خلفائه الراشدين، وسنة جلة أصحابه أجمعين.
قد يقال: فهل يجب علينا قيام الليل، مثلما تجب علينا الصلوات الخمس؟ وهل يجب علينا اليوم مثلما كان واجبا في صدر الإسلام، ولم يكن هناك شيء من نسخ أو تبديل؟
نقول: نعم، ليس هناك نسخ أو تبديل، ولا نحبّ أن نخوض في المصطلحات الفقهية، فلا نسميه فرضا، أو واجبا، وإنما نقول: إننا اليوم مأمورون بقيام الليل، مثلما أمر به رسول الله وأصحابه بالأمس.
حقيقة هامّة جديرة بالانتباه!
وهناك حقيقة هامة لا يفوتنا التنبيه إليها، وهي أن الصلوات الخمس وأخواتها من شروط الإسلام، لا بد من أدائها لتحقق الإسلام وثبوته، فإذا أداها الرجل تحقق إسلامه، وثبت له ما ثبت لجماعة المسلمين من فوز وكرامة، وذلك كما رواه الإمام مسلم:
حدثنا قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف بن عبد الله الثقفى عن مالك بن أنس - فيما قرئ عليه - عن أبى سهيل عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «خمس صلوات فى اليوم والليلة». فقال هل علي غيرهن قال «لا. إلا أن تطوع وصيام شهر رمضان». فقال هل علي غيره فقال «لا. إلا أن تطوع». وذكر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزكاة فقال هل علي غيرها قال «لا. إلا أن تطوع» قال فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «أفلح إن صدق».[4]
فتلك الرواية لا تذكر من الصلوات إلا الصلوات الخمس، وهي فرض على كل مسلم، ولا بد من أدائها، ولكن هناك صلاة غيرها، وهي صلاة الليل، وهي إن لم تكن فرضا على الجميع، فهي فرض على من أراد أن يذوق حلاوة الإيمان !
وهي فرض على من أراد أن يقوم بالدور القيادي في خدمة الإسلام !
وهي فرض على من أراد أن يقوم بما قام به رسول الله وأصحابه البررة من نشر دين الله، ورفع بنيانه، وتوطيد أركانه، وإعلاء كلمته.
والرسول عليه الصلاة والسلام حينما كان يقوم أدنى من ثلثي الليل، ونصفه، وثلثه، ما كان يقوم معه المسلمون كلهم، وإنما كان يقوم معه طائفة منهم.
وهم الذين كانوا القاعدة الصلبة لصرح الإسلام فيما بعد، وهم الذين قاموا بالدور القيادي في نشر الإسلام وإعلاء كلمته،,ورفع بنيانه، وتوطيد أركانه. قال تعالى:
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ)
وتلك الصلاة كانت زيادة على الصلوات الخمس، والصلوات الخمس قد فرضت قبل صلاة الليل. فالقول بنسخ صلاة الليل بالصلوات الخمس ليس له وجه وجيه.
لا يغني غناءهم إلامن بات بِيْتَتَهم!
والعالم، أو الداعية إذا كان حريصا على أن يدعو الناس إلى دين الله، وكان حريصا على أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، وكان حريصا على أن يكون من ورثة الأنبياء، ومن ورثة الصالحين من بعدهم، وكان حريصا على أن يكون خير خلف لخير سلف، فذلك لا يتأتى له إلا إذا كان كما كان سلفه الصالحون العاملون، وقد ذكر الله من دأبهم ما يلي:
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ.[5]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.[6]
هذا هو دأب السالكين على درب الدعوة والجهاد، وذلك شأنهم في آناء الليل. وكل من أراد أن يفري فريهم، ويغني غناءهم، لا بد أن يسلك طريقهم، ويبيت بيتتهم.
وأما إذا كان الأمر على غير ذلك، حيث كان أئمة المسلمين وقادتهم، وعلماؤهم ودعاتهم، وأولياء أمورهم يأكلون ملء بطونهم، وينامون ملء جفونهم، وكانت لياليهم ليالي النائمين الغافلين، أو إذا سهروا، سهروا على غير صلاة أو قرآن، ثم كانوا يعتقدون أن الصلوات الخمس فيها غنية وكفاية لأداء الرسالة، وبراءة الذمة، والخروج من العهدة، والقيام بالمهمة، وهم سينالون ما يحبون، ويبلغون ما إليه يتطلعون، من تحرير البشرية من أعدائها، وإظهار دين الله في أوطانها، فهذا لن يتمّ لهم ما ذرّ شارق، وما عنّ في السماء نجم !
ولنا العبرة فيما أثر عن سيدنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، حيث قال:
لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ جِيفَةَ لَيْلٍ قُطْرُبَ نَهَارٍ"[7].
قال ابن منظور:
القُطْرُبُ: دويبة كانتْ في الجاهلية، يزعمون أَنها ليس لها قَرارٌ البتة، وقيل لا تَسْتَريح نهارَها سَعْياً.
قال أَبو عبيد يقال إِن القُطْرُبَ لا تستريح نهارها سَعْياً فشَبَّه عبدُاللّه الرجلَ يَسْعى نَهارَه في حوائج دُنْياه فإِذا أَمْسَى أَمْسَى كالاًّ تَعِباً فينامُ ليلَتَه حتى يُصْبِح كالجِيفة لا يَتحرك[8].
وقال الزبيدي: يَسْعَى طُولَ نَهَارِهِ لِدُنْياه ، ويَنَامُ طُولَ لَيْلِه !كالجِيفَةِ التي لا تَتَحَرَّكُ![9]
قيام الليل مما يوجبه الإيمان الحيّ!
فالعمل الإسلامي لا يستوي على سوقه، ولا يؤتي من ثماره، إلا إذا كان مصحوبا بآهات شجيّة، وعبرات مسكوبة، ودعوات ضارعة خاشعة في جوف الليل.
فالقول بنسخ قيام الليل كانت له آثار سلبية واضحة في تأخر المسلمين عن دينهم، وغفلتهم عن مسؤلياتهم. وفشلهم في جهودهم ومخططاتهم!
والواقع أن قيام الليل واجب على كل من أراد أن يكون من جنود الدعوة، وقادة الصحوة، وأراد أن ينهض بالعمل الإسلامي كما نهض به الرعيل الأول من أصحاب رسول الله.
وليس هذا الوجوب كوجوب الصلوات الخمس، حتى لا يعتبر إسلام المرء إلا به، وإنما هو وجوب يوجبه الإيمان الحيّ، حتى يكون صاحبه رجلا شامخا، ومؤمنا حقا.
وذلك كوجوب الرياضة البدنية، أو التمارين الرياضية على من أراد أن يكون قوي الجسم، مجدول الخلق، مفتول الساعدين.
أو كوجوب إعداد العدّة، وتنظيم القوّة على من أراد أن يذهب إلى الهيجاء، ويقمع الأعداء.
أو كوجوب شمّ الكتب ومعايشتها، والسهر عليها، على من أراد أن يحوز شأو السبق، وقصبات التقدم في مجال العلم.
أوكوجوب الإدلاج على من أراد أن يبلغ المنزل،فقد روى الترمذي عن أبي هريرة،أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إن سلعة الله غالية ! ألا إن سلعة الله الجنة !)
هذا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
[1] ابن العربي المالكي، الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم: 1/221
[2] الإتقان في علوم القرآن: 2/65
[3] الفوز الكبير في أصول التفسير، ص: 60
[4] صحيح مسلم، باب بيان الصلوات التي هي: 1/31/109
[5] سورة الم السجدة: 16-15
[6] سورة الذاريات: 15-18
[7] المعجم الكبيرللطبراني:8/63/8676
[8] ابن منظور- لسان العرب- قطرب
[9] مرتضى الزبيدي- تاج العروس من جواهر القاموس: ج ي ف