مشاركة:

المقالات


image not found

الخطاب الشرعي بين الأمة والأئمة

د. أحمد الريسوني

هناك كثير من النصوص التكليفية الشرعية تفهم وتؤخذ عادة على انها خطاب خاص ومباشر لأولي الامر من ذوي السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية ، اي انها من شؤون الدولة واختصاصاتها ، مثل النصوص المتعلقة بإقامة العدل والقسط ، والجهاد والقتال ، وتنفيذ الحدود ، والحكم بما انزل الله ، وتنظيم شؤون الزكاة ، والاسرة والمجتمع.
وانا لا انكر ان للدولة نوع اختصاص ومزيد مسؤولية في هذه الامور وامثالها ، ولكني اقول: «ان الخطاب فيها اساسا وابتداء للامة ولجماعة المسلمين ، وعن هذا الاصل ، او عن هذه الاصالة يتفرع الاختصاص بقدر ما تقتضيه المصلحة وتمليه الضرورة ، وبقدر ما تراه الجماعة على سبيل التنظيم والتوكيل والتفويض ، بحسب الصيغ والتفاصيل المعتمدة او المتعارف عليها.
والدليل علي ذلك هو ان الخطاب الشرعي في هذه الامور العامة ، وفي معظم التكاليف الشرعية هو خطاب لجماعة المسلمين ، وهو نداء لجماعة المسلمين. فالخطاب الشرعي يتعامل مع الامة لا مع الائمة ، مع الامة لا مع الدولة ، اما الأئمة ومن في حكمهم ، فهذا انما هو شأن من شؤون الامة. فهم مخاطبون من خلالها ومكلفون من قبلها.
ولنتأمل في هذه النماذج لنرى من المخاطب بها ومن المعني بها :
– «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه» (الشورى: 13).
«واعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرقوا» (آل عمران: 103).

«والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله» (التوبة: 71).
«وانكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وامائكم» (النور: 32).
«يا أيها الذين آمنوا اذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن» (الممتحنة: 10).
«والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما» (المائدة: 38).
«الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة» (النور: 2).
«والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة» (النور: 4).
«واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن اربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت او يجعل اللّه لهن سبيلا ہ واللذان بأتيانها منك فأذوهما» (النساء: 15 – 16).
«وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت احداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى امر اللّه فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا ان اللّه يحب المقسطين» (الحجرات: 9).
«ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التي جعل اللّه لكم قيما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا» (النساء: 5).
ففي هذه النصوص كلها – وفي كثير مثلها – لا يوجد مخاطب اسمه الدولة ، او الخليفة او الحكومة ، او الامارة ، او المجلس الفلاني ، بل الخطاب للجماعة ، للامة ، لعموم المسلمين.
ومثل هذا المغزى واضح في كل خطاب جاء بصيغة «يا أيها الذين آمنوا».
وحتى امهات العبادات التي هي اساسا تعبير عن العبودية والتعبد للرب سبحانه ، وهي تعتمد على النية الفردية بالباطنة ، وتنبعث من ضمير الفرد وتتجه إليه ، حتى هذه العبادات نجد فيها ابعادا جماعية متعددة. فالامر بها يأتي جماعيا ، وقد يأتي فرديا ، والقيام بها جماعي في اصله واساسه ، واقامتها ، بما تتطلبه من اعداد ووسائل وشروط وتعاون وتناصح تتوقف على الجماعة والعمل الجماعي.
فالامر بالصلاة والزكاة مثلا يأتي في الغالب خطابا لجماعة المؤمنين «وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة» (البقرة: 43).
وأداء الصلاة هو العمل الجماعي الذي ينخرط فيه اكبر عدد من المسلمين نساء ورجالا. وهو اكثر عمل جماعي ينخرط فيه المسلم في حياته ، وفي كل صلاة يدعو المصلي بقوله «السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين».
والزكاة هي علاقة اخوية احسانية بين ذوي الفضل وذوي الحاجة من المسلمين ، ولذلك فهي بنص الحديث النبوي «تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم».
والصيام من اكثر العبادات خفاء وخصوصية ، ومع ذلك جعله موحدا في شهره وبدايته ونهايته قد رتب عليه من الابعاد الجماعية ما هو مشاهد ومعيش في كافة المجتمعات والتجمعات الاسلامية. ولو كان الصيام الفردي هو المطلوب ، لكن لكل واحد ان يختار شهره وتوقيته.
والامر في الحج اكثر قوة ووضوحا ، سواء في خطابه «وأذن في الناس بالحج» (الحج: 27) ، «ولله على الناس حج البيت» (آل عمران: 97) او في ادائه.
ففي جميع هذه الاركان يمكن ان يكون للدولة ادوار مساعدة وظائف مكملة ، ومواقف مشجعة وموجهة ، ولكن الخطاب ابدا ليس لخصوص الدولة ، وليس متوقفا على تدابير الدولة ولا على تشجيعها ومساعدتها. وهناك دول عرقلت بعض هذه الشعائر ، ولكن الشعوب المسلمة ظلت تدفع تلك العراقيل وتتخطاها ، مثلما تدافع الصعوبات الذاتية وغيرها. وسواء كانت الامة ، او الشعوب ، في مستوى مسؤولياتها فهما وعملا ، او كانت قاصرة او مقصرة ، فإن المبادرة الى تعظيم شعائرها والمحافظة عليها وتوفير ما يخدمها ودفع ما يعوقها ويضر بها هي واجباتها ووظائفها ، وجدت الدولة او لم توجد ، ساعدت ام عاندت.
نصرة الدين وحمل رسالته
وقر في الاذهان والقلوب – مثلما الشأن في الواقع المقلوب – ان نصرة الدين والدفاع عنه والدعوة إليه وحمل رسالته الى العالمين ، وظائف وواجبات دائرة بين الدولة والعلماء. ويعتقد كثير من العلماء انفسهم ان اداءهم لنصيبهم من هذه الرسالة متوقف على الدولة اذنا ومساعدة ودعما. فآل الامر الى الدولة ونيط بها الى حد كبير.
وهذا اولا ، افساد لمعاني الدين ، وقلب لأوضاعه ، على نحو ما يتبين في هذا المقال من أوله الى آخره.
وثانيا: فإن الدولة عاجزة مسبقا عن التكفل وحدها بمثل هذا الامر الجلل ، بل عاجزة حتى عن ان تكون قاطرته والطرف الاكبر فيه.
وثالثا: لان الدولة قد تكون في كثير من الاحيان غير صالحة لهذا الامر ، او غير راغبة فيه ، او غير مؤهلة له. بل قد تكون ضده ورافضة له ، لاسباب عديدة ترجع الى سياستها الداخلية والخارجية.
اولا: فلأن الله عز وجل قد خاطب في هذا الشأن عامة المؤمنين وكافة المسلمين ، وحملهم الامانة والمسؤولية ، ولم يخاطب فيه الامراء ، ولا اقتصر على العلماء ، ولا خص الاغنياء دون الفقراء فقال تعالى «قل هذه سبيلي ادعوا الى اللّه على بصيرة انا ومن اتبعني» (يوسف: 108) ، وقال سبحانه «يا أيها الذين آمنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ہ تؤمنون باللّه ورسوله ہ وتجاهدون في سبيل اللّه بأموالكم وانفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون ہ .. يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار اللّه…» (الصف: 10 – 14).
فالدعوة الى الاسلام وحمل رسالته الى كافة الانام ، هي وظيفة جميع المسلمين اتباع خاتم الانبياء ، مثلما هي وظيفة الرسول نفسه ، ومن ادعى التخصيص والاستثناء فليأتنا بدليل لا وجود له. وقل مثل هذا في نصرة اللّه التي هي نصرة دينه والجهاد والتضحية في سبيله بالاموال والانفس. فليس الخطاب بذلك موجها الى العلماء ، او الامراء ، او الفاتحين ، او قادة الجند.. بل هو خطاب موجه الى كافة «الذين آمنوا».
ثانيا: فإن امانة ثقيلة جسيمة كأمانة حفظ الدين ونصرته ، اعظم وأخطر من ان تحملها فئة واحدة او فئتان من الامة ، بما يعنيه ذلك من تعرض اي فئة للضعف والتقصير ، او لقلة في العدد والنصير ، او تعرض للانحلال والاضمحلال. اما حين تخاطب بهذه الامانة الامة ، كل الامة ، ويصبح مسؤولا عنها المؤمنون ، كل المؤمنين ، نساء ورجالا ، فقراء وأغنياء ، تجارا وصناعا ، أمراء وأجراء.. فإن فرص حمل الامانة ورعايتها تكون كثيرة وفيرة واسعة متنوعة. ومهما اصاب الامة من محن وآفات ونكبات وعثرات ، فإن فرص الافلات والانبعاث تبقى قائمة دائمة ، في هذا الجزء من الامة او ذاك. فلذلك يظل الجهاد قائما الى يوم القيامة ، ولذلك لا تزال طائفة من الامة ظاهرين على الحق الى يوم القيامة. وهذا في أسوأ الظروف وأحلكها.
ثالثا: فإن الالقاء بهذه الامانة الثقيلة الجليلة الى الدولة يجعلها عرضة للخطر الماحق حين تقوم الدولة على غير هدى من الله ، بل على الغضب والأثرة والانحراف والفساد. ومثل هذا ليس بقليل في تاريخنا. فأنى لدولة هذا شأنها ان تحمي الدين وتحمل رسالته الى العالمين؟ وقل مثل هذا حين تصبح غارقة في الفتن والصراعات الداخلية الذاتية ، او تصل الى حد التفكك والتلاشي.
اما حال الامة مع حفظ دينها فهو كحالة مع وعد اللّه تعالى الا يهلكها بسنة عامة تأتي عليها من اطرافها ، وألا يسلط عليها عدوا يهلكها ويبيد كيانها. نعم قد يصيب اجزاءها شيء من هذا وذاك ، ولكن تبقى الخيرات والبركات.