المقالات
مع الآية الأولى من سورة النساء
محمد عناية الله أسد سبحاني
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
الآية واضحة في معناها، ولايوجد فيها أيّ غموض، والحمد لله، إلا أن قوله تعالى:( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) قد تحير في تأويله كثير من أهل التفسير، فلابد من وقفة متأنية عنده بحثا عن تأويله الصحيح، والله من وراء القصد.
خلق منها زوجها
قال الإمام الطبري في تأويله:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ألقي على آدم صلى الله عليه وسلم السِّنة -فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم، عن عبدالله بن العباس وغيره- ثم أخذ ضِلَعًا من أضلاعه، من شِقٍّه الأيسر، ولأم مكانه،وآدم نائمٌ لم يهبَّ من نومته، حتى خلق الله تبارك وتعالى من ضِلَعه تلك زوجته حواء، فسوَّاها امرأة ليسكن إليها، فلما كُشِفت عنه السِّنة وهبَّ من نومته،رآها إلى جنبه، فقال -فيما يزعمون، والله أعلم-: لحمي ودمي وزوجتي! فسكن إليها.
(جامع البيان في تأويل القرآن-سورةالنساء: 7/516/8407- مؤسسةالرسالة)
هذا ما ذكره الإمام الطبري في تأويل الآية، وكان من توفيق الله سبحانه أنه حين ذكر هذا التأويل، ذكر مصدره أيضا، وهو أن هذا التأويل بلغ ابن إسحاق عن أهل الكتاب من أهل التوراة!
وهنا يأتي سؤال: ماالذي جرّ من جرّ إلى اللجوء إلى أهل الكتاب حتى يستقي منهم تأويل كلام الله ؟ وهل يملك أهل الكتاب شيئا أوثق وأحكم في تأويل الآيات مما يملكه المسلمون؟
ومما يتعجب له الباحث أن معظم المفسرين لم يروا بأسا في نقل هذه الإسرائيلية، فنقلوها وفسروا الآية بها،حتى ركن إليها من أوجب على نفسه أن يفسر القرآن بالقرآن، أو يوضح القرآن بالقرآن، قال الشيخ محمدالأمين الشنقيطي:
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه خلق الناس من ذكر وأنثى، ولم يبين هنا كيفية خلقه للذكر والأنثى المذكورين، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر من كتاب الله ، فبين أنه خلق ذلك الذكر الذي هو آدم من تراب، وقد بين الأطوار التي مر بها ذلك التراب ، كصيرورته طينا لازبا وحمأ مسنونا وصلصالا كالفخار .
وبين أنه خلق تلك الأنثى التي هي حواء من ذلك الذكر الذي هو آدم فقال في سورة النساء: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء.
(أضواءالبيان في إيضاح القرآن بالقرآن:7/414)
وكان يجمل بعلماء التفسير ألا يسلكوا أرضا عمهاء، ولا يركنوا إلى أهل الكتاب وأهوائهم ومجازفاتهم في تفسير كتاب الله، فالذي قالوه في تفسير الآية، ماقالوه عن علم وبينة، وإنما هي ترّهات صحاصح، لا سدائد ولا صحائح!
والذي قاله أهل الكتاب في خلق حواء، استنادا إلى تلمود وأخواتها التي هي كلها ظلمة وغمّة، حيث لا تعرف مواردها ولاتبين مصادرها، هو الذي يوجد في صحف المشركين الآخرين من الهندوس والمجوس! وما أغنانا عن تلك الكتب المحرفة والحكايات الموضوعة في تفسير كتاب الله!
فلنرجع إلى القرآن نفسه في حل هذه المشكلة، فالقرآن يفسر بعضه بعضا،وأحسن تفسير للآية ما كان في ضوء أشباهها ونظائرها.
تفسير الآية في ضوء نظائرها
إذا رأينا إلى تلك الآية في ضوء أشباهها ونظائرها، لم يبق في الأمر إشكال، وصرّح الحق عن محضه.
فمن نظائرها قوله تعالى في سورة الأعراف:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
وقوله تعالى في سورة الروم:
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
وقوله تعالى في سورة النحل:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
فربنا سبحانه وتعالى لم يخلق أمّنا حواء من جسم أبينا آدم، وإنما خلق حواء من طين، كما خلق آدم عليه السلام من طين.
وجعل آدم وحواء متحدين في الجنس، وبالتالي جعل بنات حواء من جنس بني آدم، فذلك أدعى إلى المودة والرحمة، وأدعى إلى أن يسكن بعضهم إلى بعض.
والإنسان لايميل إلى لحمه ودمه، وإنما يميل إلى جنسه، ولعل هذا أيضا من أسباب تحريم ما حرّم من النساء على الرجال؛ فإن كلا من المحارم تمتّ بأرحامٍ إليهم وشيجةٍ.
وليس هذا خاصا بالإنسان، فكل حيوان يميل إلى جنسه، وقد قيل: إن الطيور على أشكالها تقع.
ليس التفضيل في طريقة الخلق
والسياق ليس سياق تفضيل آدم أو بني آدم على سائر الأنواع من ناحية الخلق، حتى يقال كما قال الشيخ ابن عاشور، حيث قال:
والنفس الواحدة: هي آدم. والزوج: حواء، فإن حواء أخرجت من آدم من ضلعه، كما يقتضيه ظاهر قوله {منها}
ومن تبعيضية. ومعنى التبعيض أن حواء خلقت من جزء من آدم. قيل: من بقية الطينة التي خلق منها آدم. وقيل: فصلت قطعة من ضلعه وهو ظاهر الحديث الوارد في الصحيحين.
ومن قال: إن المعنى وخلق منها زوجها: من نوعها لم يأت بطائل، لأن ذلك لا يختص بنوع الإنسان فإن أنثى كل نوع هي من نوعه.
(التحريروالتنوير-سورةالنساء: 4/9-مؤسسة التاريخ العربي-بيروت-لبنان)
فميزة آدم على سائر الأنواع ليست في طريقة الخلق، وإنما هي في المهمة التي خلق لأدائها، والكرامة التي أسبغت عليه، فارتداها وتأزّر بها!
وأما الرواية التي استند إليها ابن عاشور وغيره ممن يرون رأيه، فهي كما يلي:
حدثنا عمرو الناقد وابن أبى عمر - واللفظ لابن أبى عمر - قالا حدثنا سفيان عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج،وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها»
(صحيح مسلم-باب الوصية بالنساء: 4/178/3719-دارالجيل بيروت)
مفهوم الحديث
قال الفقيه الإمام أبوالعباس الأنصاري القرطبي، وهو يشرح هذا الحديث:
وقوله: ( إن المرأة خلقت من ضلع، هذا يؤيد ما ينقله المفسِّرون : أن حواء خلقت من آخر أضلاع آدم عليهما السلام، وهي: القصيرى - مقصورًا-ومعنى (خلقت ) أي: أخرجت كما تخرج النخلة من النَّواة .
ويحتمل أن يكون هذا قصد به المثل . فيكون معنى ( من ضلع ) ؛ أي : من مثل ضلع . أي فهي كالضلع. ويشهد له قوله : ( لن تستقيم لك على طريقة، فان استمعت بها؛ استمتعت وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وكَسْرُهَا طلاقُها ).
(أبوالعباس القرطبي-المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: 13/66)
ذكر القرطبي احتمالين في معنى الحديث، والتأمل في ألفاظ الحديث يحدوبنا إلى ترجيح الاحتمال الثاني على الأول، فإن الواقع أن المرأة ما خلقت إلا مما خلق منه المرء، وهو الطين وأنواعه التي ذكرت في القرآن في أكثر من موضع. وأمر أمّنا حواء لايختلف عن أمر بناتها، فهي خلقت مما خُلقت بناتها.
والذي ورد في الحديث إنما قصد به المثل، وليس هو حقيقة الأمر.ومما يرجح هذا الفهم أن الحديث لم يذكر حواء، وإنما ذكر المرأة، ولو كان المقصود بيان الواقع التاريخي لذكرت حواء دون المرأة.
نظام القرآن تفسير القرآن بالقرآن